الأحد، 12 ديسمبر 2021


الفقد ليس سهلًا


إلى خالتي الراحلة، وإلى جدتي التي سبقتها في رحيلها، أنتما تمارسان الرحيل المخلّد، ونحن نمارس الخلود الراحل، أنتما تقيمان بعيدًا عنّي لكنكما لم تزالا في ذاكرتي وقلبي. ربما يبدو هذا الكلام مكرر جدًّا في فضفضات الفقد، وقصائد الأطلال، ورثاءات الأدب. لذا، سأتكلّم من ذاكرتي أنا، وقلبي أنا. منذ رحيلكما، والدنيا من حولي تستعين بعكّاز لكي تستمر، لم تعد تلقائيّة، لم تعد مطمئنة وقويّة لكي أثق بها، وكأن رحيلكما كان خذلانًا. كنت أعتقد أن تماسكي في بداية فترة رحيلكما كان شيئًا مُطمئنًا، بأن الفقد يمكن احتماله، لكنني لم أعي أن الرحيل غير الفقد، فرحيلكما كان حدَثًا، وفقدكما كان حديثًا، حديث الأيّام والليالي، والذي يطول ويتمدد ويتفاقم كلما طالت المدّة. أنا اليوم أعيش هذا الفقد، أجرّب حرارة لا تنطفئ في صدري، ووجع يقض مضجعي، أذكر مرة، استيقظتُ يا خالتي من النوم، كنت أمر في فترة انتقاليّة ترغمني على الاستيقاظ مبكرًّا لإنجاز بعض الأعمال. وبطبيعة الفترات الانتقاليّة التي تضرب على أوتار منطقة الراحة، ضربت على وتر نومي وروتين راحتي، فكان هذا الأمر سبب لتعكّر مزاجي وانتفاضة كل الأفكار السلبية والمؤلمة للاستيقاظ معي، أوّل فكرة استيقظتُ عليها هي موتك يا خالة، قمت من النوم بفزع ناضج للتو، خالتي ماتت! وكأن الحدث قد نزل من السماء للتو، بكامل الألم والصدمة. هنا علمتُ أن الفقد لم ينتهي، ولن ينتهي، يا الله، الأمر يبدو طويلًا، هل سيرافقني هذا الفقد طيلة حياتي؟ تيقنت أن الفقد ليس سهلًا، نعم الفقد ليس سهلًا، الحنين ليس سهلًا، الشوق ليس سهلًا. تؤرّقني فكرة أنني أعاني من شيء لا يمكنني التأمّل في حدوثه، وهو عودتكما، دخولكما لدهليز البيت، اتكائكما بجانب بعضيكما لتترأسان اجتماعنا، قهوتنا، أحاديثنا، نشعر بأن الدنيا كاملة، لا ينقصها شيء، نحن مكتملون، الفتية هادئون، الأحفاد مطمئنّون، يأوون إليكما لتحميانهم من توبيخ أمهاتهم، ونعتزل نحن الفتيات في آخر الليلة الحجرة الداخليّة لأحاديثنا التافهة بعيدًا عنكم، بكل أمان، بأن الجميع في المجلس يقضون الليلة بتفاصيلهم الناضجة، ونقضيها نحن بهمومنا التي تسعى للنضج. الحجرة اليوم غدت فارغة، إلا من الصغار الذين يلهون فيها ويرددون أسمائكم للبحث عنكم. وبت أنا والفتيات نتحلّق مجلسنا مع الكبار الذين يفتقدونكم، وأعيننا عليهم، نختلق الأحاديث لإسعادهم، لملئ المكان عليهم، أصبحت أشعر بمسؤوليّة الجبر لغيري وأنا أعاني كسري، أصبحت أشعر بأن لهوي لم يعد له مساحة ممكنة، ولا يمكنني أن أهرول بخفّتي وأرمي كل شيء خلف ظهري، فالدنيا لم تعد تهرول معي، أنسى دائمًا أنها تتكئ على عكّازها، وأن عليّ مداراتها، الدنيا اختلفت كثيرًا بعدكما، وقلبي وذاكرتي يردّدان لي دائمًا هذه الفترة: لقد اعتقدتي أن الفقد سهلًا، لكنّه ليس سهلًا، الفقد.. ليس سهلًا.


الأحد، 18 يوليو 2021