الاثنين، 13 نوفمبر 2023

 


أختبئ هنا والآن لأحكي عنك، أو لأحكي لك، أنا أحاول الهروب من الحزن أو ألم الفقد، لكن هذه المرة لا أدري مالذي يجري بي، هذا يومي الثالث بعد معرفتي بموتك وكلما عبرت صورة لك أو صوت لك أو حتى ذكرى طفيفة أبكي سريعًا، اليوم كانت دموعي ستفضحني وأنا وسط زميلاتي في العمل بعد صلاة الظهر، لا أعلم مصدر هذا العمق وسبب الوجع، أكلّه أنت؟

دكتور وسام الحنيطي، علمت بموتك ظهيرة يوم الجمعة من رسالة في الواتس اب وقرأت اسمك كأعجميّة تحاول تهجئة الحروف واستيعاب معناها، وحين تهجيتها ببطء من هول الصدمة وجدت تهجئتها صحيحة فهي تشير لاسمك ولكن ذلك الاسم لم يستوعبه عقلي، أهو أنتـ أحقًّا أنت؟ كيف تموت؟ أو كيف مت، وكيف رحلت؟ كيف وكيف، هذا ما اجتاح عقلي وما زال، عدم تصديق... وحزن عميق....

كنت أردد ذكر الله وأسترجع وأرضّي نفسي بالقدَر، لكن الشعور كان أكبر، لذا لم أجد مفر سوى البوح به وعدم إنكاره أو المراوغة في إخفائه أو تحجيمه، وليس ذلك مدعاة لاجترار الحزن ولا فرارًا منه، بل عيشه كما هو، كما يلتاع في نفسي الآن ويذرفه القلم...

بكيت يوم الجمعة كثيرًا، بكيت لدرجة أنني سمعت صوت بكائي، كتبت على الورق لأتخفف فابتلت الورق، أجهل سبب الحزن العظيم هذا والله، ولماذا لا يتوقف...

أنت طيب جدًّا، عملت معك لمدة سنتين، احتويتني خلالها بالإرشاد والتوجيه والمساعدة والتفهم والعطاء المتواصل والصبر والتعليم، ولستُ أنا فقط بل كل طاقم العمل من زميلات وزملاء، سعتك كانت تغمرنا، عطاؤك لا متناهي، وحرصك مهما كان يربكنا إلا أنه يذهلنا، المتابعة لكل صغيرة وكبيرة أول بأول كانت أولى أولياتك كمشرف وكإنسان يعي معنى الأمانة، كنت أرسل استفساراتي بعد منتصف الليل بفعل ما يشكل عليّ من مهام فترد كسرعة البرق، أنت متواجد دائمًا فكيف لي أن أستوعب بأنك لم تعد موجودًا أبدًا؟

لا نسير في إتمام مهمة إلا بتأييدك واعتمادك وتشجيعك، لا نتم أمر إلا بعد توجيهك، ولا نتعلم مهمة جديدة إلا بتوضيحك وتسجيلك لكثير من المقاطع المصورة خطوة بخطوة بصوتك الجهوري المتانّي لنفهم ونستوعب ونطبق، أنت المتكلّم والمعلّم والملهم، القائد الإنساني والحازم الحاني، شخصية يندر أن تجتمع فيها تلك الصفات السخيّة وبروح نقيّة....

حين انتهت فترة العمل، كنت أرغب بشكرك، ليس شكر عابر برسالة طائرة وسطور مختصرة، بل شكر حاضر في مكالمة أسمِعُك فيها امتناني وعرفاني، لكنني كنت خجلة من الاتصال ومترددة خاصة مع حلول فترة الإجازة وانتشار الجميع لحيواتهم والتزاماتهم الشخصية، فأجلت المكالمة لحين عودة فترة العمل، أعلم بأنني لن أعود للعمل فقد أتممت عقد عملي، ولكنني فضلت الاتصال في فترة كهذه كونها أدعى للتواصل في مثل شان كهذا....ولكي لا يغيب عني ذلك علّقت اسمك في قائمة التذكيرات لهاتفي كتذكير لإجراء تلك المكالمة حتى يحين موعدها..فكلما قلت في نفسي لا داعي، تضاعف الإصرار وصوت داخلي يرد بأنه من الضروري ان تتصلي،حادثيه واشكريه وودعيه...  

وفعلًا، في نهار أحد أيام العمل، اتصلت بك، فأجبتَ عليّ، وحينها توقعتَ مني بأن سبب اتصالي هو الاستفسار عن إمكانية تجديد عقود العمل أو توضيح الفرص المهنية القادمة، عندها نفيتُ لك ذلك وقلتُ لك بأن سبب اتصالي هو شكرك فقط لا أكثر، وبأنك لم تقصر معنا بشيء طيلة السنتين وبأنني تشرفت بمعرفتك، فشكرتني على ذلك باختصار شديد، لفتني هدوئك واختصارك للحديث، لكنني كنت راضية عن مبادرتي عمومًا بمحادثتك وبأن دافعي الوحيد منها هو أنني لا أحب إنهاء تجاربي ببرود والمضي قدمًا دون الالتفات لمن كانوا سبب في تقدمي أصلًا بعد الله لأحييهم أطيب تحية وأصدقهم الشعور والاعتراف بالفضل والامتنان لما كانوا عليه وكم كانوا رائعين ولطيفين وملهمين...

مضت الأيام بي، ورزقني الله بفرصة عمل أخرى، وبعد شهر أو أكثر، وصلني اتصال فائت باسم جهة العمل التي كنتُ أعمل بها معك (كونهم كانوا ينوون التوظيف من جديد) أعدتُ الاتصال وإذا بصوتك يجيء إليّ متعجبًا وبقولك أنك لم تتصل بي، وهنا فعلًا تساءلت كيف لرقم الجهة العام المسؤول عن التوظيف أن يحولني لرقمك الخاص؟! إلى هذه اللحظة لا أعلم كيف حدث هذا الاتصال الخاطئ، والذي أدركت بأنه كان اتصال صائب لأنه منحني فرصة أخيرة للسلام عليك قبل وفاتك التي ستحين بعدها بفترة قصيرة جدًّا، وبالرغم من أنني لم أكن أعلم بمرضك إلا إنني لحظت في هذا الاتصال صوتًا منهكًا ومرهق وغير مكترث.... وللتو أسترجعه الآن وأعرف سببه، فقد كنتُ آنذاك متعجبة، فمن عادتك أن تحادث الأشخاص بحماسة وصوت جهوري ونفس حاضرة ومحتفية....

بعد خبر وفاتك، الجميع يقولون بأنك كنت رجل طيب، أما أنا فكنت سعيدة بأنني قلت لك كم أنت طيب وحادثتك بنفسي، فثمة فرق بين من يقولها وهو يعيها، ومن يقولها وهو ينعيها..

أنت حقًّا طيب جدًّا، وما جرح قلبي هو أن الحياة بحاجة لشخص مثلك، وبأنك لا زلت شابًّا معطاءً وشهمًا وصادق ولا أزكيك على الله، وبأنك كنت مريض ونحن لا نعلم، وبأنك رحلت على حين غرة، فبكينا أكثر وأغزر، أكثر من لو أننا كنا نعلم عن وضعك الصحي..

اللهم اغفر لعبدك وسام الحنيطي وأنزل عليه شآبيب الرحمات، وابسط له النعيم المقيم وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله واجزه عنا خير الجزاء، يا رب وأنت أهل للرجاء، اللهم والطف بأحبابه وأصحابه وطلابه، ولا تفتنا بعده، واجبرنا جميعًا جبرًا أنت وليّه، واجمعنا به وبأحبابنا الغالين في مستقر رحمتك وفردوس جنتك، بعد طول عمر وحسن عمل.. يا من وسعت رحمته كل شيء وهو رب كل شيء... والحمد لله رب العالمين..

وداعًا معلمي القدير وزميلي الغالي، وداعًا دكتور وسام، وستبقى في ذاكرتي ما حييت، فمعرفتك جوهر وصحبتك وسام...